من نجوم أعلام الأمة التركمانية
أحد أسمى آيات الطب البشري في البلاد الإسلامية
الشيخ الرئيس: (ابن سينا)
(٢)
توطئة:
ليس الغرض هنا من تسليط الضوء على قبسات من تاريخ حياة بن سينا بذكر ماجرى وماكان منها مما ذكر على صفحات غير قليل من مصادر التاريخ قديمها وحديثها فحسب.. وإنما لنغوص بتحليل أذهاننا في بعض من بعض ما يستحق التحليل من جوانب إنسانية تستثير الفكر سواء في حياته العلمية.. أو النضالية على أكثر من صعيد.. بشكل خاص..
في يوم ما كان له أخ في تفرده على الأرض من أيام عام خمس وسبعين وثلاثمائة للهجرة، بقرية يقال لها (خرمثين) من ضياع (بخارى)، أذنت السماء بأن تولد معجزة من معجزات العلوم البشرية التي ادخرت روحها زمنا في بطن علياء عالم الذر لتبزغ أخيرا متمثلة بطفل اسمه: (الحسين).. لأب اسمه : (عبد الله بن علي بن سينا).. وأم ضن علينا ما توفر لدينا من مصادر التاريخ بغير إخبارنا أن اسمها: (ستارة)..
وأنعم الخالق على تلك الأسرة بطفل جديد صار اسمه (الحارث) قبل أن تنتقل بجميع أفرادها إلى مدينة (بخارى) بعد أن عين الأمير (نوح بن منصور) والد الحسين
(عبد الله) أمير الدولة السامانية واليا على تلك المدينة التي كانت عاصمة للسامانيين المهابين والمدان لهم بالطاعة أمراء أفغانستان في الجنوب، وخوارزم في الشمال، وكذلك في جرجان جنوبي بحر قزوين.. فوق ما أصبح لها من منزلة علمية وتجارية منذ خضعت لحكم الإسلام إذ غدت المدينة الغافية بين الحدائق والبساتين موطنا لآيات الإبداع العمراني من قصور ومساجد ومكتبات للوراقين ومراكز للتجارة.. وكان الحظ حليفا لقصر من قصورها بأن سانده ليكون مسكنا لأسرة (عبد الله بن سينا)، فينعم فوق ما هطل عليه من شرف احتضان تلك الأسرة بأن يمسي كل ليلة مستضيفا لخلاصة من صفوة الدعاة والفقهاء وعلماء اللغة، وعلماء علوم الدنيا في الطبيعيات والرياضيات والفلك والمنطق والفلسفة الذين يدعوهم الوالي (عبد الله بن سينا) لتتردد أصداء ما يدور بينهم من حوار سلس عذب على نفوس الظامئين للمعرفة ونقاش شهي لعقول عشاق العلم في عديد من قضايا السياسة والدين واللغة وعلوم الدنيا في عرصات قاعات ذاك المسكن إثر صلاة العشاء وحتى منتصف الليل.. وكانت طفولة(الحسين) التي لم تتجاوز عامها السابع ترشف بحافظتها القوية أطرافا من معين تلك البيئة الناضحة بما لذ وطاب لعقول المتيمين بالمعرفة من جذاب أرقى ألوان الثقافة في ذاك العصر.. حتى تشبعت بذلك روحه المشرعة لحب العلم وفاض ذلك على ملامح سلوكه فتنبه والده لذلك وسرت به نفسه، فعهد بابنه (الحسين) لاثنين من المعلمين.. أحدهما معلم للقرآن وعلومه، والآخر معلم للأدب شعره ونثره حتى بلغ من العمر قرابة سنوات عشر..
وفي هذا ينقل عنه صاحبه ورفيق درب معاناته المقبلة (أبو عبيدة الجوجزاني) بعض ما ذكره الشيخ الرئيس (الحسين بن سينا) عن نفسه في ذلك الحين بعد زمن منه بأن قال : ( إن أبي كان رجلا من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور، واشتغل بالتصرف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميثن من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها أفشنة، وتزوج أبي منها بوالدتي وقطن بها وسكن، وولدت منها بها ثم ولدت أخي، ثم انتقلنا إلى بخارى.. وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب وأكملت العشر من العمر حتى كان يقضي مني العجب!!)..
ومن بين طيات ما كان يجري على ألسنة عصبة من أولئك العلماء من ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند خاصة، بلغ مسمعه أن العالم الرياضي المسلم (أبا موسى الخوارزمي) قد أبدع كتابا عن (حساب الهند)، مما أدى إلى تفاقم لهفة ذهنه الظامئ دوما لمزيد من المعارف بأن يطلع على مكنون صفحات ذاك الكتاب فنصحه والده باللجوء إلى بائع من باعة البصل ما كان سواه يملك ذاك الكتاب..
(وثمة من المصادر من تذكر أنه كان رجل يبيع البقل.. والبقل في العربية هو كل ما أنبتته الأرض على صفة خاصة.. وسواء كان صاحب قصتنا البائع هذا بائع بصل أو أي صنف من أصناف البقل فإن ما يغري اهتمامنا هنا فحسب أنه كان بائعا على قدر من بساطة الحال يلم بحساب الهند في ذاك الزمان وينفرد لوحده بكونه يحتفظ بذاك الكتاب الثمين الذي ود الحسين ابن سينا الاستزادة من علوم صفحاته!!.. ومن الطريف المذهل أن نجد هنا في منعطف هذه السيرة دليلا يفصح عن حقيقة تعامل الإنسان مع العلم في صدر الدولة الإسلامية بأن كان العلم في ذاك الحين كيان لرقي الذات الإنسانية بالدرجة العظمى والتدرج بها نحو آفاق الكمال الفكري ومن ثم الإنساني، وليس مجرد وسيلة تتخذ عن عمد لتيسير غايات مادية فحسب دون ذلك.. ولعلنا من هذا ندرك سببا من أسباب تقهقر الحال الثقافي والفكري والعلمي كذلك في عموم بلادنا الإسلامية قياسا إلى عصور إسلامية مضت.. بعد أن صار العلم مستعبدا لقشور المادة على عكس أيام كان العلم فيها يكتسب للمعرفة دون أن يؤسر في أقبية غير قليل من المحتكرين، وشح فيه أن يتكبر المرء بشئ من علمه على بشر أو عمل أو مهنة من المهن الشريفة في أصلها وإن احتمل كون عائدها المادي ضئيل السخاء على صاحبه )
و خلاصة القول أن بائع البصل قد سر فوق السرور بما أبصره من رغبة الحسين بن سينا في الاستزادة مما لديه من علم، وتفرغ لتعليمه كتاب (الحساب الهندي)، وزاد على ذلك بأن علمه كتابا آخر للخوارزمي عن (الجبر والمقابلة).. وللعلم لذة تستولي بجبروتها على نفس كل متيم بها سواء كان من العلماء أو المتعلمين حتى تطغى بهيمنتها على تأثير كل لذة نفسية سواها وتغدو المعرفة إدمانا لذيذا يجتذب النفس للاستزادة مزيدا بعد المزيد..
وما مضى زمن حتى ابتهجت بخارى بمقدم عالم متفلسف شقت شهرته كبد الآفاق اسمه (أبو عبيد الله النائلي) لتحتضنه أراضيها بإبداع عقله الذي لا يقدر بأثمن ثمن، وينزل ضيفا مقيما في قصر (عبد الله بن سينا) الذي كان مدركا مدى أشواق رغبة ابنه الحسين في دراسة الفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعيات.. وسرعان ما أصبح (النائلي) أستاذا للحسين بن سينا، الذي توسم أستاذه من ذكائه ما هو أهل لاستيعاب جميع ما يعرفه هو نفسه من علوم.. فبدأ بتعليمه علم المنطق الذي وضع أسسه (أرسطو) فيلسوف اليونان الأكبر..
يشهد التاريخ كم كان (الحسين بن سينا) حكيما في تقسيم أوقاته بين حضور مجالس صفوة العلماء فوق ما رصده من وقته مقاسمة بين كل من أستاذه في علوم الفقه (اسماعيل الزاهد).. وأستاذه (أبو عبد الله النائلي) الذي ما أن أتم دروس المنطق مع الحسين بن سينا وأدرك أن تلميذه بنجابته العبقرية قد أحاط به علما في زمن يسير، حتى بدأ بتدريسه علم الهيئة (الفلك) والأصول الهندسية.. ليرتقي منها لدراسة الطبيعيات ثم الفلسفة على إثرها.. وما مرت سنوات ثلاث حتى أتم الحسين تعلم جميع علوم أستاذه النائلي وصار بتفسيره لما خفي على أستاذه من خبايا المسائل ومعمياتها في تلك العلوم أستاذا لأستاذه الشهير ذاته !!!!..
وفي هذا ننقل مزيدا مما نقله عنه (أبو عبيدة الجوجزاني) من بعض ما ذكره الشيخ الرئيس (الحسين بن سينا) عن نفسه عن ذاك العهد من سيرة حياته بقوله:
( ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله النائلي، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه.. وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه على اسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين.. وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به..
ثم ابتدأت بكتاب " ايساغوجي" على النائلي.. وتعجب مني كل العجب وحذر والدي من شغلي بغير المعلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرا منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه.. وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة..
ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب إقليدس.. فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره، ثم انتقلت إلى " المجسطي"، ولما فرغت من مقدماته وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي النائلي تول قراءتها وحلها بنفسك، ثم اعرضها علي لأبين لك صوابه من خطئه، وما كان الرجل يقوم بالكتاب..
وأخذت أحل ذلك الكتاب.. فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما عرضته عليه وفهمته إياه.. ثم فارقني النائلي متوجها إلى "كركانج"، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تتفتح علي..)..
لم يكن ذاك المزيد المتفاقم من إدمان العلم بحاجة للتسلل إلى أعماق (الحسين بن سينا) عبر مسام روحه.. لأن روحه كانت منذ فجر طفولته مشرعة بحب الفكر والعلوم.. بدأ الحب طفلا بطفولته.. ثم كبر وترعرع مع أيامه حتى غلبه على عمره وصار العلم أكبر في خصوبته من عمر عالمنا المذكور ذاته.. وذاك ما سنراه بإذن الله تعالى في جزئنا الأخير المقبل.. و ذو اللباب الأهم في جميع حياته من سيرة الشيخ الرئيس..
حاشية:
** كلمات ابن سينا تم اقتباسها من كتاب/ ( أذكياء الأطباء)
تأليف : ( محمد رضا الحكيمي )